استحداث كليتي التميز والذكاء الأصطناعي ، خطوة رائدة من وزارة التعليم والبحث العلمي لتطوير التنمية الرقمية في العراق
- إشراقات
في لحظة بات فيها مستقبل الدول يُقاس بما تملكه من قدرات رقمية، لا بما تملكه من ثروات خام، تتقدّم وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في العراق خطوة جادة وجريئة باستحداث كليتي التميّز والذكاء الاصطناعي في جامعة بغداد، معلنةً بذلك انخراطها الرسمي في المشروع الوطني للتحوّل الرقمي. ليست المسألة هنا في إنشاء كليات جديدة بقدر ما هي في ترسيخ قناعة مؤسسية بأن التنمية الرقمية لم تعد ترفاً أو خياراً، بل أمراً وجودياً لمستقبل العراق.
لقد تأخّر العراق – مثل كثير من دول المنطقة – في وضع التعليم على خط المواكبة الحقيقية للعصر الرقمي. لكنّ القرار الأخير ينبئ ببداية مرحلة مختلفة، تُدرك فيها الدولة أن الركيزة الأساسية للتنمية الرقمية لا تُبنى بالتصريحات أو بالموازنات وحدها، بل تُبنى بـمؤسسات أكاديمية قادرة على إنتاج المعرفة، وتدريب العقول، وإعداد أجيال تُجيد لغات البيانات والخوارزميات، لا تكتفي بلغة الورق والتلقين.
ما يحدث اليوم في جامعة بغداد ليس مجرد توسّع في عدد الكليات، بل هو محاولة واعية لإعادة تموضع التعليم العالي في قلب عملية التنمية. فالكليتان الجديدتان ستركّزان على تخصصات حيوية في قلب الثورة الرقمية، مثل علم البيانات، ونظم المعلومات، والذكاء الاصطناعي في مجالي الهندسة والطب. وهذه التخصصات لم تعد شأناً نخبوياً يخص المختبرات أو شركات التكنولوجيا الكبرى، بل أصبحت أدوات مباشرة لإدارة المدن، وتحسين الخدمات، ومكافحة الفساد، وزيادة الإنتاج، وتعزيز الشفافية.
التنمية الرقمية هي بالأساس عملية إعادة بناء شاملة لآليات الدولة. وهي تبدأ حين يصبح لدى الدولة كوادر قادرة على تصميم أنظمة إلكترونية تربط الوزارات بالمواطنين، وتبني منصات ذكية للخدمات، وتضع العراق على خارطة التنافسية الرقمية الإقليمية والعالمية. ولا يمكن لذلك أن يتحقق دون منظومة تعليمية تواكب هذه التحولات من داخلها، وتُعيد إنتاج المعرفة لا استهلاكها.
القرار، في توقيته ومضمونه، يُشير إلى أننا أمام تحول نوعي في فهم العلاقة بين التعليم والتنمية. إذ لم يعد التعليم غاية في ذاته، بل صار وسيلة لإنتاج اقتصاد رقمي حقيقي، يقوم على المهارات لا الألقاب، وعلى القدرات لا الشهادات. من هنا، فإن اشتراط "معايير دقيقة للقبول" كما ورد في القرار، يعكس توجهاً جديداً نحو النوع لا الكم، نحو الكفاءة لا المجاملة، وهو ما تحتاجه التنمية الرقمية أكثر من أي شيء آخر.
ولعل الأهم من كل ذلك، أن العراق، باستحداثه لهذه الكليات، يُرسل إشارة قوية إلى الداخل والخارج معاً: أنه مستعد للانتقال من مرحلة الاستهلاك الرقمي إلى مرحلة الإنتاج، ومن موقع المتلقّي إلى موقع الفاعل، ومن الاعتماد على الحلول المستوردة إلى صناعة الحلول محلياً، استناداً إلى رأسمال بشري رقمي ووطني.
التنمية الرقمية ليست مشروعات منفصلة، بل سلسلة تبدأ من التعليم، وتمر بالتخطيط، وتنتهي بخدمة المواطن. وكلما كان التعليم متقدماً ورشيقاً، كلما كانت قدرة الدولة على التحوّل الرقمي أكثر واقعية. ولذلك فإن استحداث كليتي التميّز والذكاء الاصطناعي، بما تحمله من وعود أكاديمية وتقنية، هو الخطوة الأولى الحقيقية نحو عراق رقمي، لا يعتمد على الشعارات، بل على جيل يتقن لغة المستقبل.
إن هذه المبادرة ليست فقط من أجل طلاب اليوم، بل من أجل عراق الغد. عراقٍ لا يخاف من الثورة التكنولوجية، بل يصنعها، ويوجهها، ويجعلها أداة للنهوض من جديد.
وإذا كنا صادقين مع أنفسنا، فإن الحديث عن التنمية الرقمية لا ينبغي أن يُختزل في شراء الأجهزة، أو إطلاق المنصات الإلكترونية، أو حتى تحديث الأنظمة الإدارية. فكل هذه الخطوات، على أهميتها، تبقى بلا روح ما لم تُدعَم بعقول قادرة على إدارتها، ومؤسسات أكاديمية تُنتج هذه العقول بتخصصات دقيقة، ورؤية علمية، ومناهج منفتحة على العالم.
ولهذا تُعدّ الكليتان الجديدتان بمثابة حجر الزاوية في منظومة أكبر يجب أن تُبنى بتأنٍّ وذكاء. فالعراق، اليوم، في أشدّ الحاجة إلى منظومة معرفية متكاملة، لا تعالج فقط النقص في الخبرات، بل تُعيد بناء الثقة بين الدولة والمجتمع من خلال تقديم جيل جديد من المتخصصين القادرين على ربط التقنية بالتنمية، والعلم بالواقع، والابتكار بالاحتياجات المحلية.
إن واحداً من أكثر التحديات التي تواجه التحول الرقمي في العراق هو ضعف البنية البشرية القادرة على قيادة هذا التحول. وقد ظلت السياسات العامة، لعقود طويلة، تُركّز على البناء المادي دون الالتفات إلى الاستثمار الجاد في الإنسان. أما اليوم، فنحن أمام فرصة نادرة لتصحيح هذا المسار، من خلال التعليم العالي لا غيره، ومن خلال مؤسسات جامعية تُصبح مصانع حقيقية للعقول، لا مخازن للشهادات.
ويجب أن ندرك هنا أن الكليتين الجديدتين لا ينبغي أن تُحمَّلا وحدهما كل العبء، بل يجب أن تُرافق هذه الخطوة بسلسلة من الإجراءات الاستراتيجية؛ منها تأهيل كوادر التدريس، وربط المناهج بسوق العمل، وتوقيع مذكرات تفاهم مع شركات التكنولوجيا العالمية، وتوفير البنية التحتية الرقمية داخل الحرم الجامعي ذاته. فالتنمية الرقمية لا تُولد في القاعات وحدها، بل في البيئة الجامعية بكاملها، بما فيها المختبرات والمراكز البحثية وحاضنات الأعمال.
كما أن المسار الرقمي، بطبيعته، لا يحتمل الجمود. فالمناهج يجب أن تكون ديناميكية، متجددة، تُراجع سنوياً، وتُعيد النظر في كل ما لا يخدم واقع العراق المتغير. نحن لا نريد أن نُدرّس الذكاء الاصطناعي كأدب نظري، بل أن نُنتج مناهج تُحفّز التفكير النقدي، وتحاكي مشكلات البلد، وتُشرك الطالب في تصميم الحلول لا في حفظ المقررات.
ولعلّ ما يُضاف إلى أهمية هذه الخطوة، هو بعدها الرمزي. فجامعة بغداد، وهي أقدم جامعة في العراق، تصبح اليوم منصة لانطلاق مشروع مستقبلي حقيقي. وكأن الدولة تقول لنا: "سنبدأ من الجذور". وهذا بحد ذاته موقف حضاري له دلالته، ويُعيد تعريف علاقة التاريخ بالمستقبل: أن نستثمر إرثنا الأكاديمي ليصبح قاعدة لانطلاقتنا الرقمية.
وفي هذا الإطار، يمكن أن تلعب الكليتان دوراً محورياً ليس فقط على الصعيد الأكاديمي، بل كذلك في صياغة السياسات العامة للتحول الرقمي، من خلال إعداد أوراق بحثية، وتقديم المشورة للوزارات والمؤسسات، والمشاركة في بناء الخطط الوطنية للتنمية الرقمية. لأن التنمية الحقيقية تبدأ حين تدخل الجامعة إلى الدولة، وتدخل الدولة إلى الجامعة، ضمن علاقة تبادل معرفي دائم.
وفي النهاية، نقولها بوضوح: العراق إذا أراد أن ينهض من جديد، فعليه أن يراهن على العقول، لا على الموارد. على الخوارزميات، لا على الأوامر. على الفكر الرقمي، لا الورقي. وهذه الكليات ليست فقط خطوة أولى، بل هي اختبارٌ لقدرتنا على صناعة المستقبل لا انتظاره.